مدفأة الموت

موضوع: مدفأة الموت الثلاثاء مارس 08, 2011 8:02 am

مدفأة الموت

الأولاد
يحتاجون إلى قليل من دفء يدغدغ أقدامهم الباردة، والأب المتعب الذاوية
أحلامه يقترب أكثر ليضع مسافة تحمي أياديهم الصغيرة من لمس أطرافها التي
تكاد تدفئ محيطهم المتكور حولها ..صغيرهم المولود حديثاً، منذ قدومه على
الدنيا بقي قريباً من صدر أمه، التي احتضنته بدفء حنانها..وتدفئه بخرقٍ
بالية، وغطاء سميك قصته من بطانية بالية ..لفته بها ..منذ ولادته وهي تحرص
على احتضانه ليلاً نهاراً.. تبحث في برأته وعيونه المغمضة عن إشعاعات دفء
ومشاعر تذكرها ببقايا أنوثة لا دليل لها إلا هؤلاء الأطفال الثلاثة، أكبرهم
في الصف الثالث ثم في الثاني والأخير لا يزال ملتصقاً بثوب أمه معتقداً أن
ذلك المخلوق الصغير الذي تحتضنه سوف يسرقها منه، وقد ابتعدوا عن حلقة
الدفء التي يقودها الأب حول مدفأتهم الصغيرة اليتيمة .

نظرت
الأم عبر نافذتها تراقب الأجواء في الخارج .. الغيوم في السماء تبشر بهطول
عاصف .. مشهد الأب وأطفالها في غرفتهم الوحيدة يتدارسون الواجبات المدرسية
يبعث الدفيء والقناعة والشكر، الامتحانات الفصلية على الأبواب ولا بد أن
ينجحا، يجب أن يكملا تعليمهما، فلا منقذ لهما ولهم من هذه الحال إلا
العلم..غداً سيكبرون ويكبر همهم، الفرج لا بد آتٍ مع المستقبل..إنهم أذكياء
ويتفهمون الحال، رغم صغر أعمارهم.. إلا أن حب والدهم وحنوه ينسيهم فروق
المعيشة بينهم وبين أترابهم في الحارة وفي المدرسة، عقولهم الصغيرة قانعةً
أن والدهم لا يقصر بواجباتهم رغم كفاف العيش.

ارتجفت
الأم عندما سمعت صوت الرعد مدوياً في الأفق، وقبل أن تنظم إلى أسرتها طلب
زوجها أن تترك بعضاً من النافذة مفتوحاً ليسمح بقليل من الهواء، لتهوية
الغرفة فلقد بدأت شعلة المدفأة الزرقاء تتراقص معلنةً حاجتها إلى الهواء.

اقتربت
من زوجها وقد أخذت أسنانها بالاصطكاك من شدة البرد ، مبتعدةً عن هيكل
المدفأة الحديدي حتى لا تحرم أطفالها من الدفيء القريب،وفي لحظات شعر
الجميع بالنعاس ، وقبل أن يغط الجميع في نومهم طلبت من زوجها أن ينادمها
وأولادها بأبيات شعر كان يلقيها تحت نافذتها الصيفية، تردد الأب قليلاً
متحججاً ،بان الأطفال صغاراً لن يفهموا كلماتها العميقة ..لكنها أصرت
قائلة:أشعارك تبعث الدفء في قلبي..ألقها على مسمعي لأدفئ قلبي من جديد ..عل
الأولاد ينامون دون أن يشعروا بوحشة هذا الليل العاصف.

لم
يترك قصيدةً في ذاكرته إلا واسترجعها بصوته الهادئ المطمئن.. حتى نامت
عيونهم وهدأت أنفاسهم في نوم عميق ..ناولته الطفل الرضيع ونهضت، لتضم ابنها
الصغير إلى فراش إخوته ولتغطيهم بما تيسر من خلق.. وبطانيات تضعها على
أرجلهم وفي الفراغات بين أجسادهم الصغيرة تجمع دفئهم خوفاً من تسرب الهواء
البارد حول أجسادهم الصغيرة ، ثم حملت المدفأة بعيدا عنهم ،ووضعتها في
زاوية الغرفة بعيداً عن تيار طرف النافذة المفتوح ..ثم عادت لتحتضن وليدها
وتدس جسدها المرتجف تحت غطاء زوجها المتعب المتهاوي من كدح النهار وقرص
البرد..غابت الأسرة في نوم عميق.

أغصان
الأشجار المتشابكة ظهرت خلف النافذة وكأنها اذرع شيطانية تريد أن تسرق
الأولاد من منامهم.. تضخمت وتزايدت حتى أرعبت الولد الصغير ثانيهم ذو السبع
سنوات.. الذي أيقظه صوت الريح وصفيرها، من شدة خوفه، نهض مسرعاً ليغلق
النافذة، خشية أن تمتد تلك الأذرع المخيفة وتنقض عليهم جميعا...ثم عاد
مسرعاً إلى فراش إخوته قبل أن يصيب البرد أقدامه الصغيرة متدثراً مخفياً
رأسه تحت خلق الأغطية.

انقضت
ليلتهم بهدوء ..وبصمت الموت، استقبل الجيران صباح نهار يوم شتوي عاصف، لم
يسمعوا بعده أصوات الأولاد وضوضائهم وهم يستعدون للمدرسة.

حطم
رجل الدفاع المدني زجاج النافذة ليدخل إلى غرفتهم ..وقد هاله المنظر
ورائحة الكربون المنتشرة في أجواء الغرفة.. أجساد أفراد عائلة بأكملها
اسكنها الموت وجمدها البرد..الأطفال تحت أغطيتهم.. الزوجان يتوسطهما
المولود الصغير..وفي الجهة الأخرى من الغرفة كانت مدفأة الموت.. لا يزال
هيكلها الحديدي دافئاً وقد خمدت شعلتها.